عميد جامع الجزائر يشيد بمواقف و خصال المفكر الراحل مولود قاسم نايت بلقاسم
من أبرز رجال الفكر والثقافة الذين حملوا مشروعا حضاريا متكاملا جمع بين الأصالة والمعاصرة

أشاد عميد جامع الجزائر, الشيخ محمد مأمون القاسمي الحسني, من سطيف, بمواقف و خصال المفكر الراحل مولود قاسم نايت بلقاسم (1927-1992) مؤكدا بأن الراحل كان من أبرز رجال الفكر و الثقافة في الجزائر حمل مشروعا حضاريا متكاملا جمع بين الأصالة و المعاصرة.
و أوضح ذات المتحدث خلال محاضرة ألقاها ضمن يوم دراسي بعنوان “مولود قاسم نايت بلقاسم, رجل الإصلاح الوطني و أيقونة الفكر التربوي”, نظم بدار الثقافة هواري بومدين بمبادرة من جمعية العلماء المسلمين الجزائريين, بأن “الراحل كان يرى أن معركة الهوية و مقومات الشخصية الوطنية لا تقل أهمية عن معركة الأرض و أن الأمة لا تبنى بالحدود فقط بل باللغة و العقيدة و التاريخ و الإنتماء “.
كما أبرز بأن “اهتمام مولود قاسم نايت بلقاسم بموضوع الأصالة فكرا و توجها, ظهر في مقالاته و في خطبه الافتتاحية حيث كان يبدي تصوره المتبصر و نظرته السديدة إلى التوفيق بين الأصالة و المعاصرة” داعيا إلى “الاقتداء بسيرته و الاهتمام بتراثه الفكري الغني لما يحمله من دروس و عبر للأجيال”.
و قال ذات المتحدث ” كنا نفهم من حديثه أن ذلك متأت و يمكن تحقيقه حين يعيش المجتمع إسلامه في قيمه الثابتة و مبادئه الخالدة و يتمسك بالثوابت و الأصول و يتعامل بمرونة مع المتغيرات باعتبارها مجرد وسائل و أساليب و كيفيات يعبر بها كل جيل عن واقعه و حاجات عصره”.
و أضاف بأن “مواقف ذلك الرجل المشرفة يسجلها التاريخ و منها الدفاع عن الأوقاف الخيرية و كذا اللغة العربية و تنفيذ برامج تعميمها و سعيه المستمر لإبراز قيم الإسلام في إطار وحدة الأمة الجزائرية علاوة على التصدي لمشاريع التنصير”.
و اختتم الشيخ محمد مأمون القاسمي الحسني محاضرته بالقول بأن “ما استخلصه من صحبة ذلك المفكر يبرز بأن الدولة لا تكون قوية إلا بالعلم و برجال أصحاب فكر و أن العلاقة بين الإسلام و العروبة و الأمازيغية لا تناقض فيها بل تكامل إذا كانت العقول راشدة كما أن التربية ليست مناهج فقط بل أمثلة صالحة و رجال قدوة”.
من جانبهم, تطرق عديد المتدخلين من مؤرخين و باحثين خلال هذه التظاهرة التي حضرها إلى جانب السلطات الولائية المدنية و العسكرية, ثلة من المفكرين و المؤرخين و المشايخ على غرار الدكاترة محمد الصغير بلعلام و عبد الرزاق قسوم و سعيد معول و مولود عويمر و صالح بلعيد, إلى الدور الذي لعبه الراحل مولود قاسم نايت بلقاسم في ترسيخ الهوية الوطنية و الدفاع عن مقومات الشخصية الجزائرية مبرزين مساهماته في مجال الفكر و التاريخ.
و شكل هذا اليوم الدراسي مناسبة للوقوف على مسيرة مولود قاسم نايت بلقاسم ليس فقط كشخصية بارزة في التاريخ الوطني و إنما كنموذج يعكس غنى و تفرد الهوية الجزائرية في أبعادها المتشابكة, حسب ما أفاد به رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين, الدكتور عبد الحليم قابة.
و تم بالمناسبة تقديم عديد المداخلات على غرار “مولود قاسم نايت بلقاسم الرجل و المشروع ” و “هاجس النهضة عند مولود قاسم نايت بلقاسم” و “مولود قاسم السمفونية العذبة العازفة دوما على النغم الوطني”.
المفكر مولود قاسم نايت بلقاسم من مواليد 6 جانفي 1927 هو أحد عمالقة الفكر في الجزائر، ومن كبار العلماء الذين أنجبهم هذا البلد في القرن الماضي، ابن فلاح، كان مناضلا نشطا في الدفاع عن قضية وطنه العادلة، وحاملا لمشروع “التعريب في الجزائر بعد الاستقلال.مولود قاسم نايت قاسم من مواليد 6 جانفي 1927 ببلدية بلعيان بأقبو بجاية، من خيرة ما أنجبت الجزائر، من العلماء والمفكرين والمثقفين العظماء ولا يمكن لأي جاحد أن ينكر ذلك، دافع عن اللغة العربية بإستماتة وكان حريصا على أن تسترجع هذه اللغة مكانتها ومركزها، كما ترك رصيدا علميا ومعرفيا كبيرا حول وجود الأمة الجزائرية، لكنه للأسف همّش إعلاميا.
ويشهد كل من صاحب الأستاذ مولود قاسم ومن تابع مسيرة حياته، عن كثب وكذا من طالع جميع مؤلفاته، أنه كان يتمتع بذكاء ووعي شديدين وبذاكرة بديعة خارقة للعادة، وهو الشيء الذي أهله لتعلم وإتقان خمس عشرة لغة.
كان حسب اعترافه شخصيا، يكتب ويحاضر بخمس منها هي: العربية والفرنسية والإنجليزية والألمانية والسويدية، وكان أحد كتبه باللغة الألمانية ويحمل عنوان
ALGERIEN (الجزائر) وقد طبعه مكتب جامعة الدول العربية في بون عام 1957.
كما أن العديد من مقالاته ودراساته لا زالت متناثرة بمختلف الجرائد والدوريات العربية والعالمية القديمة، وهو ما يدل دلالة قاطعة على اجتهاده ونشاطه المكثف والحثيث منذ أن كان تلميذا في أول الطريق، وإلى أن إرتقى إلى أعلى المناصب الرسمية.
لقد ارتبط للأبد اسم الأستاذ مولود قاسم نايت بلقاسم، بالعديد من المنجزات والمواقف الوطنية «البطولية» المشرفة، بحيث يأتي على رأس الجميع إعداده وإشرافه بتفانٍ على ملتقى الفكر الإسلامي الذي كانت له اليد الطولى في إنجاحه، وإعطائه تلك الصورة الحضارية البارزة والجد محترمة إلى حدّ جلب اهتمام ومتابعة الصحافة العربية والعالمية ذات الصدى الواسع.
ومن بين النقاط الفكرية التي خالف فيها مولود قاسم غيره، هو تاريخ الجزائر وبدايته، ببحث تاريخي أسماه «شخصية الجزائر الدولية قبل 1830»، عاد فيه إلى الأصول القديمة لهذه الأمة التي كان لها دوما دور في التاريخ.
بدأ مشواره الدراسي من مسجد قريته، بلعيان بآيت عباس، التابعة إداريا لبلدية آقبو، ثم واصل مشواره الدراسي في زاوية سيدي يحيى العيدلي ثم في تونس، حيث التحق بجامعة الزيتونة سنة 1946.
في تلك السنة التحق بحزب الشعب ثم في 1947 وبعد أربع سنوات، التحق بالقاهرة الأول في دفعته، ثم في 1954 التحق بجامعة باريس وسجل للدكتوراه حول بحث اسمه «الحرية عند المعتزلة»، ولكن في سنة 1956 تخلى عن المشروع استجابة لنداء الإضراب الذي دعا إليه اتحاد الطلبة المسلمين، ثم اضطرته مضايقات الشرطة الفرنسية إلى مغادرة التراب الفرنسي وتوجه إلى تشكسلوفاكيا، حيث سجّل مرة أخرى بحثا للدكتوراه حول «الحرية عند كانط»، لكن الوطن ناداه مرة أخرى فأسرع للتلبية وترك بحثه واتجه إلى ألمانيا. ثم طلبه سعد دحلب أثناء مفاوضات إيفيان.
ثم بعد الاستقلال شغل مولود قاسم عدة مناصب، منها منصب مدير في وزارة الخارجية ثم وزيرا للتعليم الأصلي والشؤون الدينية ومستشارا لرئيس الجمهورية، ثم أصبح مسؤولا في حزب جبهة التحرير الوطني مكلفا بتعميم استعمال اللغة الوطنية ومسؤولا عن المجلس الأعلى للغة العربية.
أثبت في كل منها ولاءه للجزائر وحقّق في كل موقع نجاحات باهرة جلبت له عدة خصومات، لكن لم يعرف أنه استسلم في أي مرحلة من نضاله.
خلال الثورة التحريرية ضحى مولود قاسم بطموح شخصي جامح تمثل في الحصول على الدكتوراه التي طرق أبوابها أكثر من مرة، لكن هجرته إلى ألمانيا حرمته نهائيا من هذا الهدف. وبعد الاستقلال، عاد سي مولود إلى أرض الوطن وجلب إلى بيته في العاصمة 8 أبناء لأخيه ليمكثوا معه في البيت.
كان المرحوم مولود قاسم حريصا كل الحرص، على أن تستعيد اللغة العربية مكانتها ومركزها ورغم انخراطه في التعريب أكثر من غيره، إلا أنه ظل رافضا لكل النظريات الفكرية القومية والبعثية التي أرادت أن تجعل من اللغة دينا، وروي عن مولود قاسم أنه سُئل عن القومية فقال أضيفوا نقطة فوق القاف.
وفي أبحاثه التاريخية، وصل مولود قاسم إلى عدد من أمجاد الأمة الجزائرية وكان منهم الملك يوغرطة، ولشدة إعجابه به وبدوره اختار أن يكون هذا الملك ملف العدد الأول من مجلة الأصالة التي أصدرها حين كان وزيرا للشؤون الدينية، وقد سبب له هذا الملف بعض المتاعب كان بعضها بحسن نية وبعضها الآخر لحاجات في نفوس أصحابها، لقد اعتبر مولود قاسم أن يوغرطة هو واحد من أهم أبطال الجزائر الذين لا يمكن أن نتخلى عنهم واعتبر الإعتزاز بهم لا يناقض الانتماء إلى الإسلام.
وفي كتابه «شخصية الجزائر»، قال نايت بلقاسم إن كفاح الأبطال السابقين هم مصدر فخر زمن الشدة. تأثر مولود قاسم بيوغرطة فاختار أن يمنح اسمه لابنه البكر، ولما سُئل عن سبب الاختيار قال: «إنه أعظم ملك في تاريخ الجزائر». توفي مولود بلقاسم نايت بلقاسم يوم 27 أوت 1992 بالجزائر العاصمة ودُفن بمقبرة العالية.
ق/ث