متابعات
أخر الأخبار

كورونا و التحديات الاقتصادية

الرصد يؤكد أن دول الشمال لم تواجه وضعا عسيرا اقتصاديا بهذا الحجم منذ الحرب العالمية الثانية ، و التقارير تدق الناقوس ، دالة على مؤشرات فائقة القلق بالنسبة لبلدان الجنوب .
و لاحتواء المضاعفات تحركت عواصم الدول الكبرى من أجل ترتيب الأوراق و استدراك الوضع ، كما بدأ التحرك لتحقيق انفراج في السوق النفطية .
تحديات تزداد تعقدا و كثافة مع استمرارية تفشي الفيروس ، و استمرارية آلية الحجر المعتمدة للتصدي لتمدده ، فالحجر مكلفا اقتصاديا نتيجة شل فعالية الكثير من القطاعات ، الخدماتية خصوصا و التي تحتل موقعا محوريا في المنظومات الاقتصادية العالمية كشركات الطيران و بقية شركات النقل البحري و البري و السكك الحديدية ، و أيضا قطاع السياحة و قطاعات مرتبطة بالتسلية و الرياضة و الفن …الخ .
درس كورونا :
لعل الدرس المحوري للجائحة هو التنبيه للغفلة عن محور المحاور في المعادلة الاقتصادية و التنموية ، و هو الإنسان و أن التنمية الاجتماعية هي مكون المناعة للكيان .
فكورونا أظهرت ضرورة التركيز على الاستثمار في المنظومة الصحية و كل ما يتصل بها ، فبلدان من المصنفة ضمن الكبار صارت تتلقى الدعم من كوبا و الفيتنام ، و في ذلك ما يغني عن التبيان .
و لكن الأمر لا يتعلق بإنفاق بل باستثمار الموجود و هذا ما يجري في استغلال قطارات و بواخر لاحتضان المرضى و في ببناء مستشفيات ميدانية بتدخل خاص للجيش في هذا الوضع الحرج .
تقول غادة المطيري باحثة ومخترعة وسيدة أعمال سعودية:”لن يتوقف انتشار الفيروس إذا توقّف الاقتصاد. من المستطاع إبطاء تقدّم الوباء بواسطة إجراءات كغسل اليدين والنظافة العامة والالتزام بالحس السليم في التصرف، إضافة إلى التزام المنزل عندما تكون مريضاً. وبالنسبة إلى مسألة إرهاق نظام الرعاية الصحية بوجود عدد كبير من الإصابات، فإن ذلك يمكن التعامل معه عبر التخطيط الحكيم في حالات الطوارئ. ومثلاً، من المستطاع التغلّب على النقص في عدد الأسرّة في المستشفيات عبر السماح للحكومة باستئجار فنادق، وسفن الرحلات التجارية، وملاعب الرياضة، مع تحويلها كلها مستشفيات بديلة، بدلاً من بناء مستشفيات موقتة.
من المستطاع التعامل مع نقص الإمدادات الطبية عِبْرَ سنّ قوانين تمنع تخزينها، مع تحديد أسعار لها من قِبَل الشركات ومؤسّسات الرعاية الصحية. إنها للأسف طبيعة الرأسمالية أن تستغل كل مناسبة لجني الأرباح، حتى لو لم يكن ذلك في خدمة الصالح العام.
وفي خطوة تالية، تستطيع الحكومة تغطية النقص في التجهيزات الطبيّة عبر تفعيل عقود حالات الطوارئ مع تحويل الجهات المتعاقد معها حكوميّاً صوب انتاج كمامات وتجهيزات الحماية الشخصية وأدوات التنفس الاصطناعي. من المستطاع أن تلجأ الحكومة إلى تفعيل ذلك النوع من العقود أثناء حالات الطوارئ. وتنطبق وضعية مماثلة على التعامل مع شركات صناعة الأدوية، مع عقود معدّة سلفاً بهدف زيادة صنع اللقاحات والأدوية الملائمة لحالات الأوبئة والجائحات.
وعلى نحو مماثل، من المستطاع التعامل بحكمة مع النقص في الطواقم الصحية عبر إجراءات تشمل:
– إعادة المتقاعدين من العاملين في مجال الصحة، إلى العمل.
– الاستفادة من الصيادلة.
– إلغاء الجراحات غير المستعجلة وتوجيه العاملين فيها للعمل طوعياً في علاج المُصابين بالوباء.
وكذلك تستقى المعلومات والأهداف من المختصين في علوم الأوبئة، ويجري الاستناد إليها في صوغ سياسات احتواء الوباء. ومن المستطاع صوغ استراتيجية كفؤة عبر جمع المعلومات وتتبع البيانات، والتعرف على المجموعات الهشة أمام التعرض للفيروس (مرّة اخرى، باستخدام بيانات علم الأوبئة)، وتحديد ساعات تكون مخصصة لكبار السن أو الأطفال بهدف حمايتهم. ومن المجدي تماماً توظيف الأموال في دراسات وبائية تشمل قياس درجة حرارة أجساد الناس في الأماكن العامة. ومثلاً، من الممكن توظيف أموال في نصب كاميرات لقياس حرارة الأجساد، في أمكنة ملائمة تكون حركة البشر فيها كثيفة، ما يتيح التعرف إلى المُصابين بالحمى. من المستطاع إرسال بيانات الكاميرات الحرارية إلى “مراكز ترصد الأمراض” كي تساهم في عملية صنع القرار”.
احتمالات التحول
تاريخ العالم سيكتب أيضا وفق ما قبل و ما بعد كورونا . الجميع يتحدث عن سيناريوهات ما بعد انسحاب الفيروس ..و كل طرف ينطلق من زاوية ما للرصد ، لكن الكل يتفق على أن ما بعد كورونا ليس مثل الذي قبلها .
وتتلخص احتمالات التحول ما بعد كورنا حسب الوزير المصري الأسبق للخارجية نبيل فهمي أساساً في ثلاثة و هي كما كتب :”العودة مرة أخرى إلى الوضع الدولي المعاصر، الذي شُكِّل في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وكان يواجه تحديات التعامل مع معدلات التغيُّر السريع لعصر العولمة بدرجات متفاوتة من النجاح، نظراً إلى تطوّر وتغيُّر الخريطة المجتمعية والسياسية والأمنية والاقتصادية، هي احتمالٌ وخيارٌ غير منطقيّ وغير مجدٍّ .
والاحتمال الثاني هو الإسراع في إجراءات لإبطاء معدلات العولمة، لصالح إجراءات وطنية تارة ومحلية تارة أخرى، بالتركيز على القضايا والتحديات والمصالح القصيرة الأجل و”الانعزالية”، مدفوعين بالضغوط الآنية، وهو خيارٌ محكومٌ عليه حتماً بالفشل، لأن عصر العولمة وتكنولوجياته لا يتّسق مع الانعزالية الطويلة الأجل، كما أنّ التحديات العالمية مثل الأوبئة أو التغيّر المناخي أو حتى الاقتصاد العالمي لا تتعثر طويلاً أمام الحواجز أو تقف طواعية عند الحدود .
والخيار الثالث هو الاستفادة من التجارب المتعددة والمشتركة لتحدي فيروس كورونا الجديد، لإعادة هندسة النظام الدولي بقوانينه، ومؤسساته، وبروتوكولاته، بحيث يكون أكثر توافقاً مع عالمنا المعاصر في القرن الـ21، وهو البديل الأكثر طموحاً، إنما الأصعب تحقيقاً، لأنه يفترض التغيّر في مفاهيمنا السياسية والمجتمعية والاقتصادية .
ولعلي أضيف وبصراحة كاملة، أنّ حدة التحدي الذي شكّله فيروس كورونا الجديد، ومدة استمرار هذه الجائحة، هما اللذان سيحكمان ويحسمان تحرّكنا وتصرّفاتنا، وهل ننتهي إلى الخيار الأول القصير النظر، الذي لا يتماشى مع الواقع الدولي، أو مزيج من الخيارات الأخرى الأكثر واقعية وحكمة .
وأتطلع وآمل أن ينتهي المجتمع الدولي إلى الخيار الثالث في نهاية المطاف، بعد المرور بمرحلة التعامل مع الموقف بانعزالية، بل حتى بين الحين والآخر حتى داخل الدولة الواحدة، الذي لم يكن غريباً أو مستغرباً، وهو موقفٌ مؤلمٌ كثيراً، فرضته الظروف والأخطاء السابقة .
والمبدأ الأساسي الحاكم في الخيار الثالث هو ضرورة النظر “بمفهوم شامل وتكاملي” للقضايا، بما يعني التعامل مع جوانبها الاجتماعية بنفس قدر تعاملنا مع الاعتبارات الاقتصادية أو الأمنية أو السياسية، ومراعاة ظروف ومصالح المنظومة الدولية عموماً وداخل الدولة الواحدة وبمختلف فئاتها “.
محمد بن زيان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق