آخر الأخبارإقتصادالحدثالدوليالوطنيمتفرقات

غار جبيلات ..  من حلم مستحيل إلى مشروع يتجسد في أرض الواقع

 

  • المجمع الصيني للسكك الحديدية يتعهد بإستكمال المشروع ضمن الآجال المحددة

 

 

إستقبل وزير الأشغال العمومية والمنشآت القاعدية، لخضر رخروخ، بمقر الوزارة، رئيس مجلس إدارة المجمع الصيني للسكك الحديدية (CRCC)، داي هيغن، وذلك بحضور الإطارات المركزية للوزارة، المدير العام للوكالة الوطنية للدراسات ومتابعة إنجاز الاستثمارات في السكك الحديدية (ANESRIF)، إلى جانب إطارات الوكالة وممثلي المجمع الصيني.

يأتي هذا اللقاء بالتزامن مع الانتهاء من إنجاز واستلام مقطع هام من الخط المنجمي الغربي، يمتد على مسافة 135 كلم، ويربط بين مدينة تندوف ومنجم غار جبيلات، وهو ما يعدّ محطة هامة في مسار تجسيد أحد أبرز مشاريع المنشآت القاعدية في الجزائر.

وقد خصّص جانب من الاجتماع لتقييم وتيرة الأشغال بالمقاطع المتبقية من الخط المنجمي الغربي، حيث شدّد الوزير على ضرورة تعزيز التنسيق بين مختلف المتدخلين، قصد استكمال المشروع ضمن الآجال المحددة، تنفيذا لتوجيهات رئيس الجمهورية، ودعما للجهود الوطنية الرامية إلى تطوير شبكة السكك الحديدية وتحسين الربط بين المناطق، لاسيما في الجنوب الغربي للبلاد، بما يساهم في استغلال أمثل للموارد المنجمية وتحفيز التنمية المحلية.

من جهته، جدّد رئيس مجلس إدارة مجمع “CRCC”، التزام مؤسسته بالمساهمة الفعالة في إنجاح البرنامج الوطني لتطوير السكك الحديدية، وعلى رأسه مشروع الخط المنجمي الغربي، مؤكّدا استعداد المجمع لتسخير كل الإمكانات التقنية والبشرية اللازمة لذلك.

كما تطرّق رئيس مجلس إدارة المجمع الصيني إلى أهمية مساهمة المجمع وفروعه، في إنجاز مشاريع كبرى في قطاع المنشآت القاعدية، خصوصا في مجالات السكك الحديدية والنقل الموجّه.

وفي هذا السياق، ناقش الجانبان سبل توسيع آفاق التعاون ليشمل تطوير الأنظمة الذكية للسكك الحديدية، وتكثيف برامج التكوين المتخصص، وتدعيم قدرات الصيانة، والرقمنة بما يعزز بناء شراكة استراتيجية طويلة المدى قائمة على تبادل الخبرات والمعرفة.

 

قطار الصحراء…

لم تكن لحظةً عادية حين التفت الرئيس عبد المجيد تبون نحو ملفّ غار جبيلات، كانت تلك لحظة دولةٍ تستعيد زمامها، وتستكمل سيادتها بمنطق الحديد لا المجاملة، كانت لحظةَ رجلٍ يجلس على الطاولة، لا ليُساوم، بل ليحسم.

القرار الذي وُلد يوم وَضَع تبون يده على ملف غار جبيلات، لم يكن فعل إطلاق مشروع… بل إعلانًا جمهوريًا صامتًا، يقول إن السيادة تبدأ حين تخرج الثروات من عباءة الانتظار وتُساق في قطارات القرار الوطني.

في نوفمبر 2023،لم يكن حجر الأساس الذي وُضع على تخوم تندوف مجرّد تمهيدٍ لسكّة، بل كان تكملة لوعدٍ قديم… وعد صيغ في زمن بومدين، وتأخّر إنجازه حتى استوى على إرادة تبون.

هذا الخط الحديدي الممتد على جسد الجنوب لم يأتِ من فراغ، إنه بيان للسيادة بالأفعال، وثورة هادئة تكتبها الدولة بصمتٍ ثقيل، بلغة لا يفهمها إلا من يقرأ السياسة بعين التاريخ.

غار جبيلات ليس منجمًا فحسب، إنه قضية سيادية، محصّنة بالدم والحدود، وبالحكمة التي تعرف متى تتحرك ومتى تحفر الأرض لتستخرج منها الهيبة.

لم تكن الضربة على الطاولة من رئيسٍ غاضب، بل من قائد جمهورية أعلن لحظة التحوّل، من الانكفاء إلى المبادرة، ومن الاقتصار إلى الاستباق.

 

 

 

 

 

بومدين والحلم الثقيل: ..

في بداية السبعينيات، وبينما كان النفط يُحرر السيادة المالية للجزائر، كان بومدين يرفع بصره أبعد من الآبار، نحو الجنوب الحار، القاحل، المسكون بأسرار الجيولوجيا الثقيلة، وهناك، على تخوم تندوف، سُجلت أولى المؤشرات الصادمة: حديد غار جبيلات… كتلة عملاقة من الثروة، تقبع بصمت في جوف الوطن.

لقد كان بومدين يُدرك أن الثروات الكبيرة تستدعي شروطًا سيادية أكبر، وأن الجنوب الجزائري، بكل عمقه الجغرافي، كان ساحة استراتيجية لا يجوز الاقتراب منها دون أدوات دولة قوية ومتماسكة، ولأن الإرادة كانت تسبق الوسائل، آثر أن يزرع الحلم

ثم يُمهّد له الطريق، في صمت رجلٍ يعرف أن السيادة لا تُستعجل، وأن بعض المعارك لا تُخاض في الميدان بل في عمق الرؤية.

 

 

 

 

 

 

 

القطار الذي انتظر نصف قرن..

على امتداد خمسة عقود، ظلّ غار جبيلات أشبه بـالوعد المعلّق في رقبة الدولة، كلّما اقتربت منه الأنظار، تراجع الواقع خطوة،

ولم تكن المشكلة في غياب الإمكانيات، بل في غياب التوقيت السياسي الذي يجرؤ على التحرّك في أرضٍ ثقيلةٍ جيوسياسيًا، محفوفةٍ بالتوازنات، محاطةٍ بالأطماع، تعاقبت الرئاسات، وتبدّلت الحكومات، لكن ملف غار جبيلات بقي كما هو: ثقيلٌ بموارده، أثقل بمخاطره، وأثقل من أن يُحرّك بلا حسابات دقيقة.

حتى جاءت مرحلة الدولة التي لا تنتظر الضوء الأخضر من الخارج لتُشغّل محرّكاتها، وجاء رجلٌ يفهم أن السيادة لا تُعلن في الخطابات، بل تُنتزع بالفعل. جاء الرئيس عبد المجيد تبون،كصاحب رؤية تُعيد تعريف الأولويات، منذ اليوم الأول لتولّيه الرئاسة، لم يُخفِ الرجل انحيازه للمشاريع ذات الطابع السيادي، وفي مقدّمتها: تحرير الثروات من قبضة التأجيل، وردّ الاعتبار للمناطق التي طالها النسيان بفعل مركزية القرار لعقود.

وحين بلغ ملف غار جبيلات طاولة الرئاسة، لم يُعامل كـ”ملف استثماري”، بل كـ”قضية استراتيجية”. قرأه تبون كما يُقرأ الخطر والفرصة في آنٍ واحد،

ومنذ تلك اللحظة، تغيّر إيقاع الدولة، تحرّكت الوكالات، نُزِعت البيروقراطية من طريق السكة، وأُطلقت الصفقات، وتُرجمت الدراسات،

ودخلت الشاحنات والعتاد الثقيل في سباقٍ مع الزمن، لأن المشروع لم يعد مشروع وزارة…بل صار مشروع رئيس الجمهورية، مشروع دولةٍ بأكملها، وفي نوفمبر 2023، حين وقف تبون في قلب الجنوب ليضع حجر الأساس،

 

 

 

 

 

اسم الجزائر في سجل الأمم الصناعية:

أن تبني سكة حديدية في قلب الصحراء… فذاك إنجاز، لكن أن تبنيها كفعل سيادة، كقرار إستراتيجي، كبيان سياسي موجّه للجغرافيا والتاريخ معًا، فذلك ما فعلته الجزائر حين أطلقت مشروع الخط الحديدي بشار – غارا جبيلات.

هذا ليس مجرد خط بطول 950 كيلومترًا، بل شريان سياديّ يمتد من وعي الدولة العميق إلى جوف الأرض الحديدية، يمرّ عبر صمت الجبال، وتضاريس السكون، ليعلن أن الجنوب الجزائري لم يعد “هامشًا”، بل صار محورًا في رسم المستقبل الاقتصادي والسياسي للبلاد.

مشروع بحجم وطن، إذ ينقسم الخط إلى ثلاثة مقاطع ضخمة، كل واحد منها بمثابة مشروع قائم بذاته، يحمل طابعًا هندسيًا ولوجستيًا يستحق أن يُدرّس،

أما المقطع الأول، بشار – حدود بني عباس بطول 200كلم، أنجزته مؤسسات جزائرية عمومية بخبرة تراكمت عبر سنوات من مشاريع الهضاب والموانئ والأنفاق، كان هذا المقطع هو التحدي الأول، حيث الانطلاقة، وحيث رُفعت كل التحفظات الأولية، وانطلقت الدولة في أول رفعة معول.

والمقطع الثاني، أم العسل – تندوف 175 كلم، نفذته كذلك مؤسسات جزائرية في بيئة قاحلة شديدة العزلة، وقد شكل اختبارًا للصبر والتنظيم والإمداد، لكن الجزائر، بشبابها ومهندسيها ومعدّاتها، أثبتت أنها قادرة على تحويل الصحراء إلى ورشة وطن.

ثم المقطع الثالث، تندوف – غارا جبيلات 135 كلم ، الذي تولّته شركة CRCC الصينية، تحت إشراف وقيادة الدولة الجزائرية،

وقد أُنجز كاملاً قبل الموعد التعاقدي، في مشهدٍ يجسّد تلاحم الإرادة الجزائرية بالخبرة العالمية، و تُوّج في جويلية 2025 بإعلان وزير الأشغال العمومية تسليم هذا الجزء رسميًا، وبه، انطلقت أول سكة نحو حلم كان نائمًا منذ أكثر من خمسين عامًا.

في عمق هذه الأرض، لم يكن التحدي في الحفر والتثبيت فحسب، بل في ابتكار لغة جديدة للهندسة الجزائرية، لأول مرة، تُنتَج العوارض الخرسانية مسبقة الإجهاد في الجزائر، بطول 2.6 متر،

وقدرة تحمّل تصل إلى 32.5 طن/محور، قادرة على دعم قطارات بطول 2.5 كلم – أي قطار أطول من كل ما شهدته البلاد من قبل، عدد العوارض المنتجة يوميًا: 5400 عارضة وحدات جزائرية (Infrarail – Infrafer – كوسيدار) تنتج 800 عارضة/يوم لكل منها، ووحدة صينية CRCC تنتج 3000 عارضة/يوم،

ما يجعل الجزائر واحدة من أعلى الدول إفريقيًا في إنتاج العوارض الموجهة للحمولات المنجمية الثقيلة، أما الإنتاج اليومي من الحصى تجاوز 100 ألف طن/يوم، وبعد دخول خطوط إنتاج جديدة حيز الخدمة، في عملية دعم لوجستي هي الأكبر منذ مشروع الطريق السيار شرق-غرب.

وفي خلفية هذه المعجزة هناك 3500 عامل ومهندس وفني جزائري، يعملون ليل نهار تحت شمس الجنوب الحارقة، يسندهم 1600 وحدة من العتاد الثقيل، من الجرافات إلى القطارات الميكانيكية إلى آلات اللحام والتسطيح، لم تكن المسألة مجرد بناء سكة… بل بناء إرادة، تحت إشراف وكالة “أنسريف،

وبدعم سياسي مباشر من رئاسة الجمهورية، سارت كل المقاطع بوتيرة متصاعدة، حتى تقرر أن التسليم لن يكون في مارس 2026، كما ينص العقد، بل قبل ذلك بكثير، لأن الوطن لا ينتظر البيروقراطية حين تقود الدولة مشروعًا سياديًا.

هذا الخط لم يُبْنَ فقط لنقل المعدن، بل صُمّم كقاعدة بنية تحتية لتوسيع النفوذ الاقتصادي للجزائر، باتجاه الموانئ الشمالية، حيث تُحوّل الخامات وتُصدّر، وباتجاه الأسواق الإفريقية الغربية، حيث قد تصبح الجزائر قاطرة التوريد المعدنية للقارة، إنه ليس مجرد خط نقل… إنه خط ولاء وطني، خط رسم الحدود بالسكك، وبنى للمستقبل على بُعد مئات الكيلومترات من قاعات العاصمة، الحديد هنا ليس خامًا… بل مفهوم سيادي.

 

 

 

 

 

 

منجم الحديد أم منجم السيادة؟

ينبعث اسم “غار جبيلات” ليس كمنجم فحسب، بل كرمزٍ ثقيل الوزن في معادلة السيادة الوطنية، هنا، لا تُقاس الأهمية بعدد أطنان الحديد المدفونة، بل بحجم القرار السياسي الذي أخرجها إلى سطح المعركة التنموية، فالحديث عن غار جبيلات، هو في جوهره حديث عن كيفية تحويل الموارد الطبيعية إلى رافعة للقوة الوطنية، لا مجرد أرقام في ميزانية التصدير.

تُقدّر احتياطات هذا المنجم الضخم بأكثر من 3.5 مليار طن من خام الحديد، منها ما يفوق 1.7 مليار طن قابل للاستغلال الفوري، إنها أرقام تضع الجزائر في مصاف الدول التي لا تمتلك فقط الثروة، بل تمتلك ورقة تفاوض إستراتيجية في الأسواق العالمية للمعادن، ففي عالمٍ يشتد فيه التنافس على مصادر الطاقة والمواد الأولية، يصبح الحديد الجزائري أداة سيادة، لا مجرد مادة خام.

لكن القيمة الحقيقية لغار جبيلات لا تكمن في حجمه، بل في الرؤية التي تقف خلف استغلاله، لم تختر الجزائر أن تبقى على هامش السلسلة الصناعية، بل قرّرت – بقيادة الرئيس عبد المجيد تبون – أن تجعل من هذا المشروع قاعدة لانطلاقة اقتصادية جديدة، تُربط فيها الموارد الخام بالتحويل الصناعي، وتُصاغ فيها معادلة تُفضي إلى الاكتفاء الذاتي، وتعزيز الصادرات في آنٍ واحد.

الرؤية واضحة، استخراج الحديد وحده لا يكفي، ما لم يتحوّل إلى مادة مُصنّعة، إلى قضيب، إلى آلة، إلى سلعة تَحمل علامة “صُنع في الجزائر”.

ومن هنا، يأتي قرار ربط المنجم بخط السكة الحديدية الممتد على 950 كلم، بما يختصر المسافات، ويخفض التكاليف، ويجعل غار جبيلات متصلًا بالموانئ، والمصانع، والأسواق العالمية.

في هذا السياق، لا يعود المشروع اقتصاديًا فقط، بل يصبح فعلًا سياديًا بامتياز، ورسالة صريحة بأن الجنوب الجزائري ليس متروكًا، بل موضوع في قلب المخطط الوطني، إن إنجاز غار جبيلات بمنجمه وسكته وخريطته ، يؤكد أن الجزائر لا تكتفي بإدارة ثرواتها، بل تحصّنها، وتحوّلها إلى أدوات نفوذ، وأذرع جيوسياسية، وحضور فاعل في قلب إفريقيا.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ق/ح

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى