الثقافي

“مطلوعة”.. رواية اجتماعية من عمق الجزائر

انطباع القارئ: أمين بشير باي من مستغانم

مطلوعة – خبز وحب” رواية اجتماعية جاءت في 370 صفحة، صدرت عن المؤسسة الوطنية للفنون المطبعة بمناسبة افتكاكها جائزة آخر طبعة من مسابقة عليّ معاشي للمبدعين الشباب، من تأليف ابن عين الدفلى الشاب المبدع عبد الباسط باني، تدور أحداثها ما بين حياة أهالي القرية وأجواء الثانوية وجمالية بساطة السوق الشعبية لتنتهي بجريمة قتل معقّدة، تضع بطل الرواية في ورطة أودت بحريّته.

أسلوب عبد الباسط باني جميل وشيّق ويكتب بقلم ولمسة يفوقان عمره وتجربته نسبيّاً، ما يجعل “مطلوعة” أكثر تميّز. أما عن دلالة (خبز وحب) فتختصر سعي شابٍ فقير لكسب قوته من رغيف الخبز، يحدث أن يصطدم مع الحب في جوّ عبثيّ لا يتناسب مع الحالة الاجتماعية والنفسية للعاشق. هذه الرواية تعطي نفساً آخر لرمزية الخبز في الأدب العربي.

وأعتقد أن “باني” كان مفرطاً نوعا ما في الوصف في الفصول الأولى من روايته، ما يجعل قراءتها تبدو صعبة لقارئ مبتدئ؛ يفتقد الصبر، فالقارئ غالبا ما يُحب التوازن في سرعة إيقاع الرواية مع درجة الوصف؛ فإذا طغى أحدهما على الآخر تعقدت مهمة القارئ نوعا ما.

فصول الرواية استهلها الروائي بمقاطع أغاني تراثية من مختلف طبوع الفنّ الجزائري من شعبيّ إلى رايوّي، و”مطلوعة” رواية لم تخرج عن المؤلوف كثيراً في موضوعاتها؛ حيث تطرقت لحياة الريف القاسية ومعاناة فتيانها وشيوخها، أحداثها معاصرة لزمننا، تتغير الأمكنة فيها من قرية إلى مدينة.

نمط الوصف والانتقال في حيّز المكان كانا نقطة قوّة السرد عندك الكاتب في الفصول الأولى، أما عن المواضيع التي جمعتها “مطلوعة” في طبق واحد: عمالة الأطفال، التشرد، صعوبة كسب لقمة العيش، السهرات الليلة الصاخبة، الفلاحة، أجواء الأسواق الشعبية، الطيبة، الصداقة، تقصير الأولياء في تربية أبناءهم، الظلم، الجريمة، الخيانة، فأي عجينة قد تتحمّل كل هذا إذا لم يكن الخبّاز محترفاً في حرفته!

سيعيش القارئ مع بطله يومياته؛ في كوخه المهترئ الملوّن بالتعاسة والذكريات والاشمئزاز والتعب والأرق، ومع “مطلوعة” ستجد نفسك تتسكّع في الريف وتتنفس هواءه النقي، ستجد نفسك تجول شوارع وهران ليلاً، ستجد نفسك تنتظر دورك في قاعة انتظار عيادة الطبيب تعيش تفاصيل الصبر بكل ثوانيه المستفزة، ستجد نفسك في مرحلة أيام الثانوي تجذبك لحظات المراهقة، وستجول الأسواق الشعبية وسط الباعة صغاراً وكباراً. كما لم تخلو الرواية من آثار الاستعمار الفرنسي وهمجيته وتصديّ الأحرار له، من ذكريات المجاهدين الأنقياء وأكاذيب المتاجرين بالقضيّة، من حياة الفنان ومآسيه، من مظاهر الفقر في القرى وانعكاساته على ظاهرة التسرب المدرسي.

أما آخر الفصول الرواية عبارة عن أدب الجريمة، براعة الكاتب في سرد تفاصيل الجريمة دون كشف شيفرتها للقارئ، بالإضافة إلى جرعة مضاعفة من عنصريّ التشويق والقلق، تتسارع أحداث الرواية أكثر، يقِّل عامل الوصف بشكل ملحوظ وكأن الكاتب ملك أخيراً مفاتيح روايته وصار يتفنّن في استخدامها لفتح ألغازها.

في النصف الأول من الرواية عبد الباسط باني أفرط أحيانا كثيرة في وصف المشاهد الروائية حدّ الإسراف، ومن جهة أخرى يتفننّ في تصويرها من زوايا مختلفة، ما يجعلني أطمح لرؤيته يجرّب كتابة السيناريوهات مستقبلاً، وأعتقد أنه سينجح بإذن الله.

في الفصول الوسطى للرواية عرّفنا “باني” بالجانب النفسيّ لشخصية “مطلوعة” على لسان هذا الأخير، حيث أن بطل الرواية بدى متخوفاً من مرض أصابه فسجّل في مذكراته معاناته مع المرض وتداعياته النفسية والفيسيولوجية.

استخدم كاتبها ألقاب شخصيات ك: حميد البغل، اللاز، المخفي… أعادت إلى ذهني رواية “اللاز” للروائي الكبير طاهر وطار عليه رحمة الله، هذه الألقاب لطالما أعطت للروايات والقصص رونقاً جزائرياً وطابعا شعبيا يلامس فيه القارئ نفسه.

وكشف كاتبنا عن قدرته في الجانب البحثي، أين يبدو جليّاً للقارئ أنه بحث في تفاصيل الحياة البسيطة، وفي الجانب الصحي والأمراض، وأساليب السرد البوليسيّ، وأدب المذكرات.

بالعودة إلى أسلوب الروائي، لم تصل اللغة الروائية في نظري الشخصي (كقارئ) مستوى الارتقاء، حيث غلبت عليها البساطة، وزيّنها السرد السلس، في غياب للغة المعقّدة والأساليب الإحيائية، التي من شأنها أن تشبع رغبات القارئ المتمرّس.

كقارئ أثمن الحيّز المكاني الذي عمل عليه “باني”، بينما فقدت البوصلة الزمنيّة للرواية في بعض الفصول التي كانت تحتاج ساعة زمنية واضحة.

ولا أدري لماذا كان عبد الباسط باني مستعجلا في آخر 100 صفحة من روايته، تخلى بشكل واضح عن لمسته في الوصف كليّاً، وكان بإمكان “مطلوعة” أن تنضج أكثر وتفوح رائحتها إلى أبعد من الحدود التي رسمها بائعها.

وفي أواخر الرواية شخصية “مطلوعة” رغبت في الانفلات من بين يديّ الكاتب، أرادت إنهاء دورها بالشكل الذي ترغب فيه، أرادت إفساد عنصر التشويق وحرمان الكاتب لذّة التأليف والتعذيب، فالشخصية كانت تعيش حياةً تسيّدتها العبثية واللامعنى (حسب مطلوعة نفسه)، لكن لا صوت يعلو فوق صوت الروائي الذي يرسم الأحداث ولو طالت وتمددّت تفاصيلها. وتبقى النهاية التي اختارها كاتبنا موفقةً ومفتوحة أمام خيال المتلقيّ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق