متابعات

تدابير الحفاظ على الذاكرة الوطنية… تصفية رواسب الماضي لتفعيل ديناميكية المستقبل

يقول المثل ” إذا كنت لا تعرف من أين أتيت فأنت لا تعرف إلى أين ذاهب “، و ذلك ما يجعل الذاكرة قضية محورية بالنسبة للفرد و المجتمع و الدولة ، و الذاكرة هي الأساس الذي ينطلق منه الباحث في التاريخ لصياغة تاريخ شعب . و طيلة عقود استمرت قضية الذاكرة العقدة التي تعيق تبلور علاقات سوية بين الجزائر و فرنسا ، عقدة تفاقم تعقيدها بتمادي بعض اللوبيات في فرنسا في التنكر للحقيقة و في تبرير ما اقترفه الاستعمار من جرائم تصنف بنصوص القانون الدولي ضمن الجرائم ضد الإنسانية ، و بلغ ذلك التمادي الذروة لما تم طرح قانون تمجيد الاستعمار و اعتباره ظارهة حضارية .

و في بداية المرحلة الجديدة من مسار الجزائر بعد حوالي ستين سنة من استرجاع الاستقلال ، تشكلت ارهاصات خطوات مكثفة في رمزيتها و مؤشرة لما يعيد ترتيب الأمور و التصالح مع الحقيقة . بداية تم طرح مشروع قانون يكرس 8 ماي كيوم وطني للذاكرة . و في ذكرى الاستقلال تمت استعادة جماجم بعد المقاومين ، جماجم ظلت في فرنسا منذ القرن التاسع عشر .  

  في مخطط العمل الذي طرحته الحكومة و بخصوص  الذاكرة  ورد أن “الحكومة ستسهر على اتخاذ كل التدابير والترتيبات التنظيمية والقانونية والمادية الرامية إلى صون الذاكرة الوطنية وضمان تكفل أمثل بهذه الفئة النبيلة من المجاهدين وذوي الحقوق”، كما تم الإعلان عن “تسوية الملفات المتعلقة بمفقودي حرب التحرير الوطني وتعويض ضحايا التجارب النووية واسترجاع الأرشيف الوطني واستعادة جماجم شهداء المقاومة الشعبية ومدفع بابا مرزوق”، بالإضافة إلى “تعمل الحكومة جاهدة على ترقية التاريخ وتبليغه إلى الأجيال الصاعدة وتكثيف عمليات جمع وتسجيل الشهادات الحية من أجل تصنيفها واستغلالها”.

و ذلك مرتبط بتوجه  ورد  في تصريح الرئيس تبون لجريدة لوبينيون الفرنسية:” لا يمكن تعتيم الذاكرة ولا يمكننا أن نفعل ما نريد بها. إن الاسترجاع الأخير لرفات شهداء المقاومة الذين عارضوا إنشاء الجيش الاستعماري قبل قرن ونصف هو خطوة عظيمة. هناك جرائم أخرى تستحق أن تُقال ، مثل الاستيلاء على واحة زعاطشة حيث قامت القوات الفرنسية للواء إميل هيربيلون بذبح مقاتلي الشيخ بوزيان .

كما قام المارشال سانت أرنود بتنفيذ العديد من المذابح التي راح ضحيتها أكثر من الضحايا في أورادور سور جلان، يعامل العديد من المؤرخين الفرنسيين هذه الأحداث التاريخية بكل أمانة، بمجرد التغلب على مشاكل الذاكرة هذه ، يمكننا المضي قدمًا بهدوء كبير” .

و أضاف :”إيمانويل ماكرون ينتمي إلى جيل جديد، وفي وقت الاستقلال، لم يكن قد ولد ولم يكن على اتصال مع جماعات الضغط المعادية للجزائر ” و :” الجزائريون مهتمون أكثر بالاعتراف بالدولة الفرنسية بأفعالها خلال فترة الاستعمار أكثر من الاهتمام بالتعويض المادي.التعويض الوحيد الممكن هو عن التجارب النووية والتي لا تزال العواقب حادة بالنسبة لبعض السكان، ولا سيما أولئك الذين يعانون من تشوهات. وبعض المواقع التي لم يتم معالجتها بعد” .

لقد كان استرجاع بعض الجماجم بمثابة التأسيس الفعلي لنواة تجاوز الحاجز النفسي و لعل انتماء ماكرون لجيل ما بعد الاستعمار يساعد على تجسيد ذلك ..و كما قال المؤرخ بنجامين ستورا :” أن “قضية جماجم المقاومين الجزائريين المتواجدة بمتحف الانسان بباريس  منذ ما يقارب قرنين, جاءت لتذكر ب “محطة دموية” للاستعمار و حرب الغزو العسكري  20 سنة بعد معاهدة التافنة التي وقعها الأمير عبد القادر سنة 1837 “.

وكما قال المؤرخ محمد أرزقي  فراد  ” أن استرجاع هذه الجماجم، كان ضرورة لتحصين الأجيال بالوعي التاريخي الضروري لحماية الاستقلال وبناء المستقبل “و ” أن وجود الجماجم كل هذه السنوات في متحف الإنسان بباريس، شكّل  قرينة مادية تؤكد جرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر، تُضاف إلى اعترافات الكثير من المثقفين الفرنسيين النزهاء، مثل ” أولفيي لوكور” صاحب كتاب:”الاستعمار إبادة “.

و يرى الصحفي   بوعلام غمراسة في  إعادة الجماجم  خطوة “قد تفتح الباب أمام علاقات طبيعية بين الجزائر وفرنسا، في حال تم التخلي عن المزايدات في موضوع الاشتغال على الذاكرة”. .

كانت استعادة الجماجم منطلقا لما بدأ تبلوره  في مسار اشتغال علمي على الذاكرة و هوما ذكره الرئيس تبون في حواره المذكور  ” تم تعيين المؤرخ بنيامين ستورا للقيام بهذا العمل التذكاري من الجانب الفرنسي. هو صادق ويعرف الجزائر وتاريخها من فترة الاحتلال إلى يومنا هذا ” و سيعين نظيره الجزائري ، و قال :”      و ستعمل هاتان الشخصيتان مباشرة تحت إشرافنا ” أي تحت إشراف الرئيسين تبون و ماكرون .

و قال :”نريدهم أن يقوموا بعملهم في الحقيقة والصفاء والهدوء لحل هذه المشاكل التي تغذي علاقاتنا السياسية ومناخ الأعمال والعلاقات الجيدة. الجزائر أساسية لفرنسا ، وفرنسا ضرورية للجزائر. يجب أن نواجه هذه الأحداث المؤلمة لنبدأ مرة أخرى في العلاقات المربحة مع البلدين ، وخاصة على المستوى الاقتصادي “.

 و المؤرخ ستورا من أبرز المتخصصين في تاريخ الجزائر المعاصر ، ألف عدة كتب و أنجز أشرطة و هو من مواليد قسنطينية في سنة 1950 ،سبق له المشاركة في عدة ملتقيات بالجزائر .

و الأمل أن تكون خطوات جادة و جدية ، لتحرير الذاكرة من الطمس و لفسح المجال أمام صياغة  تاريخية تتحرى الدقة و الصدق .

ومثل ما قال  المؤرخ فراد   إن “القاعدة التي تبنى عليها العلاقات الدولية هي قلب صفحة الماضي دون تمزيقها، فما ارتكبه الاستعمار الفرنسي من جرائم بشعة في حق أجدادنا لا يجب أن ينسى، بل يجب أن يكون عبرة لأجيال المستقبل. بيد أنه لا يجب أن يتحوّل هذا الكابوس التاريخي إلى حجر عثرة أمام بناء علاقات ودّية بين الشعبين، فقد أكد التاريخ أنه ليس هناك صداقة أو عداوة دائمتين بين الشعوب، بل هناك مصالح متبادلة تخضع لسياق الأحداث”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق